فصل: تفسير الآيات رقم (26- 27)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا ‏(‏14‏)‏‏}‏

موقع هذه الآية زيادة تقرير لمضمون جملة ‏{‏وما هي بعورة إنْ يريدون إلا فراراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 13‏]‏ فإنها لتكذيبهم في إظهارهم التخوف على بيوتهم، ومرادهم خذل المسلمين‏.‏ ولم أجد فيما رأيت من كلام المفسرين ولا من أهل اللغة مَن أفصَحَ عن معنى ‏(‏الدُخول‏)‏ في مثل هذه الآية وما ذكروا إلاّ معنى الولوج إلى المكان مثل ولوج البيوت أو المدن، وهو الحقيقة‏.‏ والذي أراه أن الدخول كثر إطلاقه على دخول خاص وهو اقتحام الجيش أو المغيرين أرضاً أو بلداً لغزْو أهله، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏يا قوم ادخلوا الأرض المقدَّسة التي كتب الله لكم ولا ترتدُّوا على أدباركم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 21‏]‏، وأنه يُعدّى غالباً إلى المغزوِّين بحرف على‏.‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال رجلان من الذين يخافون أنعَمَ الله عليهما ادْخُلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏قالوا يا موسى إنّا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 24‏]‏ فإنه ما يصلح إلا معنى دخول القتال والحرب لقوله‏:‏ ‏{‏فإذا دخلتموه فإنكم غالبون‏}‏ لظهور أنه لا يراد‏:‏ إذا دخلتم دخول ضيافة أو تَجول أو تجسس، فيفهم من الدخول في مثل هذا المقام معنى الغزو والفتح كما نقول‏:‏ عام دخول التتار بغداد، ولذلك فالدخول في قوله‏:‏ ‏{‏ولو دُخِلت عليهم‏}‏ هو دخول الغزو فيتعين أن يكون ضمير ‏{‏دُخلت‏}‏ عائداً إلى مدينة يثرب لا إلى البيوت من قولهم ‏{‏إن بيوتنا عورة‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 13‏]‏، والمعنى‏:‏ لو غُزِيت المدينة من جوانبها الخ‏.‏‏.‏‏.‏

وقوله ‏{‏عليهم‏}‏ يتعلق ب ‏{‏دُخلت‏}‏ لأن بناء ‏{‏دُخلت‏}‏ للنائب مقتض فاعلاً محذوفاً‏.‏ فالمراد‏:‏ دخول الداخلين على أهل المدينة كما جاء على الأصل في قوله ‏{‏ادخلوا عليهم الباب‏}‏ في سورة العقود ‏(‏23‏)‏‏.‏

والأقطار‏:‏ جمع قُطر بضم القاف وسكون الطاء وهو الناحية من المكان‏.‏ وإضافة ‏(‏أقطار‏)‏ وهو جمع تفيد العموم، أي‏:‏ من جميع جوانب المدينة وذلك أشد هجوم العدوّ على المدينة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفلَ منكم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 10‏]‏‏.‏ وأسند فعل ‏{‏دُخلت‏}‏ إلى المجهول لظهور أن فاعل الدخول قوم غزاة‏.‏ وقد أبدى المفسرون في كيفية نظم هذه الآية احتمالات متفاوتة في معاني الكلمات وفي حاصل المعنى المراد، وأقربها ما قاله ابن عطية على غموض فيه، ويليه ما في «الكشاف»‏.‏ والذي ينبغي التفسير به أن تكون جملة ‏{‏ولو دُخلت عليهم‏}‏ في موضع الحال من ضمير ‏{‏يريدون‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 13‏]‏ أو من ضمير ‏{‏وما هي بعورة‏}‏ زيادة في تكذيب قولهم ‏{‏إن بيوتنا عورة‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 13‏]‏‏.‏

والضمير المستتر في ‏{‏دُخلت‏}‏ عائد إلى المدينة لأن إضافة الأقطار يناسب المدن والمواطن ولا يناسب البيوت‏.‏ فيصير المعنى‏:‏ لو دَخَل الغزاة عليهم المدينة وهم قاطنون فيها‏.‏

و ‏{‏ثم‏}‏ للترتيب الرتبي، وكان مقتضى الظاهر أن يعطف بالواو لا ب ‏{‏ثم‏}‏ لأن المذكور بعد ‏{‏ثم‏}‏ هنا داخل في فعل شرط ‏{‏لو‏}‏ ووارد عليه جوابها، فعدل عن الواو إلى ‏{‏ثم‏}‏ للتنبيه على أن ما بعد ‏{‏ثم‏}‏ أهم من الذي قبلها كشأن ‏{‏ثم‏}‏ في عطف الجُمل، أي‏:‏ أنهم مع ذلك يأتون الفتنة، و‏{‏الفتنة هي أن يفتنوا المسلمين، أي‏:‏ الكيد لهم وإلقاء التخاذل في جيش المسلمين‏.‏ ومن المفسرين من فسَّر الفتنة بالشرك ولا وجه له ومنهم من فسرها بالقتال وهو بعيد‏.‏

والإتيان‏:‏ القدوم إلى مكان‏.‏ وقد أشعر هذا الفعل بأنهم يخرجون من المدينة التي كانوا فيها ليفتنوا المسلمين، وضمير النصب في أتوها‏}‏ عائد إلى ‏{‏الفتنة والمراد مكانها وهو مكان المسلمين، أي لأتوا مكانها ومظنتها‏.‏ وضمير بها‏}‏ للفتنة، والباء للتعدية‏.‏

وجملة ‏{‏وما تلبثوا بها‏}‏ عطف على جملة ‏{‏لأتوها‏}‏‏.‏ والتلبُّث‏:‏ اللبث، أي‏:‏ الاستقرار في المكان وهو هنا مستعار للإبطاء، أي ما أبطأوا بالسعي في الفتنة ولا خافوا أن تؤخذ بيوتهم‏.‏ والمعنى‏:‏ لو دَخلت جيوش الأحزاب المدينة وبقي جيش المسلمين خارجها أي مثلاً لأن الكلام على الفرض والتقدير وسأل الجيشُ الداخلُ الفريقَ المستأذنين أن يُلقوا الفتنة في المسلمين بالتفريق والتخذيل لخرجوا لذلك القصد مُسرعين ولم يثبطهم الخوف على بيوتهم أن يدخلها اللصوص أو ينهبها الجيش‏:‏ إما لأنهم آمنون من أن يلقَوا سوءاً من الجيش الداخل لأنهم أولياء له ومعاونون، فهم منهم وإليهم، وإما لأن كراهتهم الإسلام تجعلهم لا يكترثون بنهب بيوتهم‏.‏

والاستثناء في قوله ‏{‏إلا يسيراً‏}‏ يظهر أنه تهكم بهم فيكون المقصود تأكيد النفي بصورة الاستثناء‏.‏ ويحتمل أنه على ظاهره، أي إلا ريثما يتأملون فلا يطيلون التأمل فيكون المقصود من ذكره تأكيد قلة التلبّث، فهذا هو التفسير المنسجم مع نظم القرآن أحسن انسجام‏.‏

وقرأ نافع وابن كثير وأبو جعفر ‏{‏لأتوها‏}‏ بهمزة تليها مثناة فوقية، وقرأ ابن عامر وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف ‏{‏لآتوها‏}‏ بألف بعد الهمزة على معنى‏:‏ لأعطوها، أي‏:‏ لأعطوا الفتنة سائليها، فإطلاق فعل ‏{‏أتوها‏}‏ مشاكلة لفعل ‏{‏سُئِلوا‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا ‏(‏15‏)‏‏}‏

هؤلاء هم بنو حارثة وبنو سَلِمة وهم الذين قال فريق منهم ‏{‏إن بيوتنا عورة‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 13‏]‏ واستأذن النبي صلى الله عليه وسلم أي كانوا يوم أُحُد جبُنوا ثم تابوا وعاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم أنهم لا يُولُّون الأدبار في غزوة بعدها، وهم الذين نزل فيهم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ همَّت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 122‏]‏؛ فطَرأ على نفر من بني حارثة نفاق وضعف في الإيمان فذكَّرهم الله بذلك وأراهم أن منهم فريقاً قُلَّباً لا يرعى عهداً ولا يستقر لهم اعتقاد وأن ذلك لضعف يقينهم وغلبة الجبن عليهم حتى يدعوهم إلى نبذ عهد الله‏.‏ وهذا تنبيه للقبيلين ليزجروا مَنْ نكث منهم‏.‏ وتأكيد هذا الخبر بلام القسم وحرف التحقيق وفعل كان، مع أن الكلام موجه إلى المؤمنين تنزيلاً للسامعين منزلة من يتردد في أنهم عاهدوا الله على الثبات‏.‏

وزيادة ‏{‏من قبل‏}‏ للإشارة إلى أن ذلك العهد قديم مستقر وهو عهد يوم أحد‏.‏ وجملة ‏{‏لا يولون الأدبار‏}‏ بيان لجملة ‏{‏عاهدوا‏}‏‏.‏

والتولية‏:‏ التوجه بالشيء وهي مشتقة من الوَلْي وهو القرب، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فوَلِّ وجهَك شطر المسجد الحرام‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 144‏]‏‏.‏

و ‏{‏الأدبار‏}‏‏:‏ الظهور‏.‏ وتولية الأدبار‏:‏ كناية عن الفرار فإن الذي استأذنوا لأجله في غزوة الخندق أرادوا منه الفرار ألا ترى قوله ‏{‏إن يريدون إلا فراراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 13‏]‏، والفرار مما عاهدوا الله على تركه‏.‏

وجملة ‏{‏وكان عهد الله مسؤولا‏}‏ تذييل لجملة ‏{‏ولقد كانوا عاهدوا‏}‏ الخ‏.‏‏.‏‏.‏ والمراد بعهد الله‏:‏ كل عهد يوثقه الإنسان مع ربه‏.‏

والمسؤول‏:‏ كناية عن المحاسب عليه كقول النبي صلى الله عليه وسلم «وكلكم مسؤول عن رعيته» وكما تقدم آنفاً عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليسأل الصادقين عن صدقهم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 8‏]‏ وهذا تهديد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏16‏)‏‏}‏

جواب عن قولهم ‏{‏إن بيوتنا عورة‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 13‏]‏ ولذلك فصِّلت لأنها جرت على أسلوب التقاول والتجاوب، وما بين الجملتين من قوله ‏{‏ولو دُخِلت عليهم إلى قوله مسؤولاً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 14 15‏]‏ اعتراض كما تقدم‏.‏ وهذا يرجح أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأذن لهم بالرجوع إلى المدينة وأنه ردّ عليهم بما أمره الله أن يقوله لهم، أي‏:‏ قد علم الله أنكم ما أردتم إلا الفرار جبناً والفرار لا يدفع عنكم الموت أو القتل، فمعنى نفي نفعه‏:‏ نفيُ ما يقصد منه لأن نفع الشيء هو أن يحصل منه ما يقصد له‏.‏

فقوله ‏{‏من الموت‏}‏ يتعلق ب ‏{‏الفرار وفررتم‏}‏ وليس متعلقاً ب ‏{‏ينفعكم‏}‏ لأن متعلق ‏{‏ينفعكم‏}‏ غير مذكور لظهوره من السياق، فالفائدة مستغنية عن المتعلق، أي‏:‏ لن ينفعكم بالنجاة‏.‏

ومعنى نفي نفع الفرار وإن كان فيه تعاطي سبب النجاة، هذا السبب غير مأذون فيه لوجوب الثبات في وجه العدوّ مع النبي صلى الله عليه وسلم فيتمحض في هذا الفرار مراعاةُ جانب الحقيقة وهو ما قُدر للإنسان من الله إذ لا معارض له، فلو كان الفرار مأذوناً فيه لجاز مراعاة ما فيه من أسباب النجاة؛ فقد كان المسلمون مأمورين بثبات الواحد للعشرة من العدوّ فكان حينئذ الفرار من وجه عشرة أضعاففِ المسلمين غير مأذون فيه وأذن فيما زاد على ذلك، ولما نسخ الله ذلك بأن يثبت المسلمون لِضِعف عددهم من العدوّ فالفرار فيما زاد على ذلك مأذون فيه، وكذلك إذا كان المسلمون زحفاً فإن الفرار حرام ساعتئذ‏.‏

وأحسب أن الأمر في غزوة الخندق كان قبل النسخ فلذلك وبّخ الله الذين أضمروا الفرار فإن عدد جيش الأحزاب يومئذ كان بمقدار أربعة أمثال جيش المسلمين ولم يكن المسلمون يومئذ زحفاً فإن الحالة حالة حصار‏.‏ ويجوز أن يكون المعنى أيضاً‏:‏ أنكم إن فررتم فنجوتم من القتل لا ينفعكم الفرار من الموت بالأجل وعسى أن تكون آجالكم قريبة‏.‏

و ‏{‏الموت، أريد به‏:‏ الموت الزُؤام وهو الموت حتف أنفه لأنه قوبل بالقتل‏.‏ والمعنى‏:‏ أن الفرار لا يدفع الموت الذي علم الله أنه يقع بالفار في الوقت الذي علم أن الفار يموت فيه ويقتل فإذا خُيِّل إلى الفارّ أن الفرار قد دفع عنه خطراً فإنما ذلك في الأحوال التي علم الله أنها لا يصيب الفارَّ فيها أذى ولا بدّ له من موت حتف أنفه أو قتل في الإبان الذي علم الله أنه يموت فيه أو يُقتل‏.‏ ولهذا عقب بجملة وإذاً لا تمتعون إلا قليلاً‏}‏ جواباً عن كلام مقدر دل عليه المذكور، أي إن خيل إليكم أن الفرار نفع الذي فرّ في وقت ما فما هو إلاّ نفع زهيد لأنه تأخير في أجل الحياة وهو متاع قليل، أي‏:‏ إعطاء الحياة مدة منتهية، فإن ‏{‏إذن‏}‏ قد تكون جواباً لمحذوف دل عليه الكلام المذكور، كقول العنبري‏:‏

لو كنت من مأزن لم تستبح إبلي *** بنو اللقيطة من ذهل بن شيبان

إذنْ لقام بنصري معشر خشن *** عند الحفيظة إنْ ذو لَوْثَة لاَنا

فإن قوله‏:‏ إذن لقام بنصري، جواب وجزاء عن مقدر دل عليه‏:‏ لم تستبح إبلي‏.‏ والتقدير‏:‏ فإن استباحوا إبلي إذَنْ لقام بنصري معشر، وهو الذي أشعر كلام المرزوقي باختياره خلافاً لما في «مغني اللبيب»‏.‏

والأكثر أن ‏{‏إذن‏}‏ إن وقعت بعد الواو والفاء العاطفتين أن لا ينصب المضارع بعدها، وورد نصبه نادراً‏.‏

والمقصود من الآية تخليق المسلمين بخُلق استضعاف الحياة الدنيا وصرف هممهم إلى السعي نحو الكمال الذي به السعادة الأبدية سيراً وراء تعاليم الدين التي تقود النفوس إلى أوج الملَكية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ مَن ذَا الذى يَعْصِمُكُمْ مِّنَ الله إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سواءا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رحمةً‏}‏

يظهر أن هذه الجملة واقعة موقع التعليل لجملة ‏{‏لن ينفعكم الفرار إن فررتم‏}‏ الآية ‏[‏الأحزاب‏:‏ 16‏]‏، فكأنه قيل‏:‏ فمن ذا الذي يعصمكم من الله، أي‏:‏ فلا عاصم لكم من نفوذ مراده فيكم‏.‏ وإعادة فعل ‏{‏قل‏}‏ تكرير لأجل الاهتمام بمضمون الجملة‏.‏

والمعنى‏:‏ لأن قدرة الله وإرادته محيطة بالمخلوقات فمتى شاء عطّل تأثير الأسباب أو عرقلها بالموانع فإن يشأ شرّاً حرم الانتفاع بالأسباب أو الاتقاء بالموانع فربما أتت الرزايا من وجوه الفوائد، ومتى شاء خيراً خاصاً بأحد لطف له بتمهيد الأسباب وتيسيرها حتى يلاقي من التيسير ما لم يكن مترقباً، ومتى لم تتعلق مشيئته بخصوص أرْسَل الأحوال في مهيعها وخلّى بين الناس وبين ما سَببه في أحوال الكائنات فنال كل أحد نصيباً على حسب فطْنته ومقدرته واهتدائه، فإن الله أودع في النفوس مراتب التفكير والتقدير؛ فأنتم إذا عصيتم الله ورسوله وخذلتم المؤمنين تتعرضون لإرادته بكم السوء فلا عاصم لكم من مراده، فالاستفهام إنكاري في معنى النفي لاعتقادهم أن الحيلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم تنفعهم وأن الفرار يعصمهم من الموت إن كان قتال‏.‏

وجملة ‏{‏من ذا الذي يعصمكم‏}‏ الخ جواب الشرط في قوله ‏{‏إن أراد بكم سوءاً‏}‏ الخ، أو دليل الجواب عند نحاة البصرة‏.‏

والعصمة‏:‏ الوقاية والمنع مما يكرهه المعصوم‏.‏ وقوبل السوء بالرحمة لأن المراد سوءٌ خاص وهو السوء المجعول عذاباً لهم على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم وهو سوء النقمة فهو سوء خاص مقدّر من الله لأجل تعذيبهم إن أراده، فيجري على خلاف القوانين المعتادة‏.‏

وعطف ‏{‏أو أراد بكم رحمة‏}‏ على ‏{‏أراد بكم‏}‏ المجعول شرطاً يقتضي كلاماً مقدراً في الجواب المتقدم، فإن إرادته الرحمة تناسب فعل ‏{‏يعصمكم‏}‏ لأن الرحمة مرغوبة‏.‏ فالتقدير‏:‏ أو يحرمكم منه إن أراد بكم رحمة، فهو من دلالة الاقتضاء إيجازاً للكلام، كقول الراعي‏:‏

إذا ما الغانيات برزنَ يوماً *** وزجَّجْن الحواجب والعيونا

تقديره‏:‏ وكحّلن العيون، لأن العيون لا تزجج ولكنها تكحل حين تزجج الحواجبُ وذلك من التزّين‏.‏

‏{‏وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ الله وَلِيّاً نَصِيراً‏}‏

عطف على جملة ‏{‏قل من ذا الذي يعصمكم،‏}‏ أو هي معترضة بين أجزاء القول، والتقديران متقاربان لأن الواو الاعتراضية ترجع إلى العاطفة‏.‏ والكلام موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وليس هو من قبيل الالتفات‏.‏ والمقصود لازم الخبر وهو إعلام النبي عليه الصلاة والسلام ببطلان تحيلاتهم وأنهم لا يجدون نصيراً غير الله وقد حرمهم الله النصر لأنهم لم يعقدوا ضمائرهم على نصر دينه ورسوله‏.‏ والمراد بالولي‏:‏ الذي يتولى نفعهم، وبالنصير‏:‏ النصير في الحرب فهو أخص‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 19‏]‏

‏{‏قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏18‏)‏ أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ‏(‏19‏)‏‏}‏

استئناف بياني ناشئ عن قوله ‏{‏من ذا الذي يعصمكم من الله‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 17‏]‏ لأن ذلك يثير سؤالاً يهجس في نفوسهم أنهم يُخفون مقاصدهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يشعر بمرادهم من الاستئذان، فأُمر أن يقول لهم ‏{‏قد يعلم الله المعوِّقين منكم‏}‏ أي‏:‏ فالله ينبئ رسوله بكم بأن فِعْل أولئك تعويق للمؤمنين‏.‏ وقد جعل هذا الاستئناف تخلصاً لذكر فريق آخر مِن المعوّقين‏.‏

و ‏{‏قد‏}‏ مفيد للتحقيق لأنهم لنفاقهم ومَرض قلوبهم يشكّون في لازم هذا الخبر وهو إنباء الله رسوله عليه الصلاة والسلام بهم، أو لأنهم لجهلهم الناشئ عن الكفر يظنون أن الله لا يعلم خفايا القلوب‏.‏ وذلك ليس بعجيب في عقائد أهل الكفر‏.‏ ففي «صحيح البخاري» عن ابن مسعود‏:‏ «اجتمع عند البيت قُرشيان وثقفيّ أو ثقفيان وقرشي كثيرةٌ شُحمُ بطونهم قليلةٌ فِقهُ قلوبهم، فقال أحدهم‏:‏ أتُرَوْنَ أن الله يسمع ما نقول‏؟‏ قال الآخر‏:‏ يسمع إذا جهرنا ولا يسمع إذا أخفينا‏.‏ وقال الآخر‏:‏ إن كان يسمع إذا جهرنا فإنه يسمع إذا أخفينا، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جُلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 22‏]‏ فللتوكيد بحرف التحقيق موقع‏.‏ ودخول ‏{‏قد‏}‏ على المضارع لا يخرجها عن معنى التحقيق عند المحققين من أهل العربية، وأن ما توهموه من التقليل إنما دل عليه المقام في بعض المواضع لا من دلالة ‏{‏قد،‏}‏ ومثله إفادة التكثير، وتقدم ذلك عند قوله تعالى ‏{‏قد نرى تقلب وجهك في السماء‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏144‏)‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد يعلم ما أنتم عليه‏}‏ في آخر سورة النور ‏(‏64‏)‏‏.‏

والمعوِّق‏:‏ اسم فاعل من عَوّق الدال على شدة حصول العَوْق‏.‏ يقال‏:‏ عاقه عن كذا، إذا منعه وثبطه عن شيء، فالتضعيف فيه للشدة والتكثير مثل‏:‏ قطَّع الحبل، إذا قطعه قطعاً كبيرة، ‏{‏وغلَّقَت الأبواب‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 23‏]‏، أي‏:‏ أحكمت غلقها‏.‏ ويكون للتكثير في الفعل القاصر مثل‏:‏ مَوَّت المال، إذ كثر الموت في الإبل، وطوَّف فلان، إذا أكثر الطواف، والمعنى‏:‏ يعلم الله الذين يحرصون على تثبيط الناس عن القتال‏.‏ والخطاب بقوله ‏{‏منكم‏}‏ للمنافقين الذين خوطبوا بقوله ‏{‏لن ينفعكم الفرار‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 16‏]‏‏.‏

ويجوز أن يكون القائلون لإخوانهم ‏{‏هلمّ إلينا هم المعوِّقين أنفسهم فيكون من عطف صفات الموصوف الواحد، كقوله‏:‏

إلى الملك القرْم وابننِ الهمام ***

ويجوز أن يكونوا طائفة أخرى وإخوانهم هم الموافقون لهم في النفاق، فالمراد‏:‏ الأخوة في الرأي والدين‏.‏ وذلك أن عبد الله بن أُبَيّ، ومعتِّب بن قُشير، ومن معهما من الذين انخذلوا عن جيش المسلمين يوم أُحُد فرجعوا إلى المدينة كانوا يرسلون إلى من بقي من المنافقين في جيش المسلمين يقولون لهم هلمّ إلينا‏}‏ أي‏:‏ ارجعوا إلينا‏.‏ قال قتادة‏:‏ هؤلاء ناس من المنافقين يقولون لهم‏:‏ ما محمد وأصحابه إلا أكلة رَأس أي نفر قليل يأكلون رأس بعير ولو كانوا لَحْماً لالتهمهم أبو سفيان ومن معه تمثيلاً بأنهم سهل تغلب أبي سفيان عليهم‏.‏

و ‏{‏هلمّ‏}‏ اسم فعللِ أمر بمعنى أقْبِل في لغة أهل الحجاز وهي الفصحى، فلذلك تلزم هذه الكلمة حالة واحدة عندهم لا تتغير عنها، يقولون‏:‏ هلمّ، للواحد والمتعدد المذكّر والمؤنّث، وهي فعل عند بني تميم فلذلك يُلحقونها العلامات يقولون‏:‏ هَلمّ وهلمّي وهَلُما وهَلمُّوا وهلْمُمْن‏.‏ وتقدم في قوله تعالى ‏{‏قل هلمّ شهداءكم‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏150‏)‏‏.‏ والمعنى‏:‏ انخذلوا عن جيش المسلمين وأقبلوا إلينا‏.‏

وجملة ولا يأتون البأس إلا قليلاً‏}‏ كلام مستقل فيجوز أن تكون الجملة حالاً من القائلين لإخوانهم ‏{‏هلمّ إلينا‏.‏‏}‏ ويجوز أن تكون عطفاً على المعوّقين والقائلين لأن الفعل يعطف على المشتق كقوله تعالى ‏{‏فالمغيرات صُبحاً فأثَرْنَ‏}‏ ‏[‏العاديات‏:‏ 3، 4‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إنّ المصَّدِّقين والمصَّدِّقات وأقرضوا الله‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 18‏]‏، فالتقدير هنا‏:‏ قد يعلم الله المعوّقين والقائلين وغيرَ الآتين البأس، أو والذين لا يأتون البأس‏.‏ وليس في تعدية فعل العلم إلى ‏{‏لا يأتون‏}‏ إشكال لأنه على تأويل كما أن عمل الناسخ في قوله ‏{‏وأقرضوا‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 18‏]‏ على تأويل، أي‏:‏ يعلم الله أنهم لا يأتون البأس إلا قليلاً، أي‏:‏ يعلم أنهم لا يقصدون بجمع إخوانهم معهم الاعتضادَ بهم في الحرب ولكن عزلهم عن القتال‏.‏

ومعنى ‏{‏إلا قليلاً‏}‏ إلا زماناً قليلاً، وهو زمان حضورهم مع المسلمين المرابطين، وهذا كقوله ‏{‏فلا يؤمنون إلا قليلاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 46‏]‏، أي‏:‏ إيماناً ظاهراً، ومثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أم بظاهر من القول‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 33‏]‏‏.‏ و‏{‏قليلاً‏}‏ صفة لمصدر محذوف، أي‏:‏ إتياناً قليلاً، وقلّته تظهر في قلة زمانه وفي قلة غنائه‏.‏

و ‏{‏البأس‏:‏ الحرب وتقدم في قوله تعالى ‏{‏لِيُحصِنَكُم من بأسكم‏}‏ في سورة الأنبياء ‏(‏80‏)‏‏.‏ وإتيان الحرب مراد به إتيان أهل الحرب أو موضعها‏.‏ والمراد‏:‏ البأس مع المسلمين، أي‏:‏ مكراً بالمسلمين لا جبْناً‏.‏

و ‏{‏أشِحَّة‏}‏ جمع شحيح بوزن أفعلة على غير قياس وهو فصيح وقياسه أشِحّاء‏.‏ وضمير الخطاب في قوله ‏{‏عليكم‏}‏ للرسول عليه الصلاة والسلام وللمسلمين، وهو انتقال من القول الذي أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بأن يقوله لهم إلى كشف أحوالهم للرسول والمسلمين بمناسبة الانتقال من الخطاب إلى الغيبة في قوله ‏{‏ولا يأتون البأس‏}‏ وتقدم الشح عند قوله تعالى ‏{‏وأُحضرت الأنفس الشح‏}‏ في سورة النساء ‏(‏128‏)‏‏.‏

وأشحةً‏}‏ حال من ضمير ‏{‏يأتون‏}‏ والشحّ‏:‏ البخل بما في الوسع مما ينفع الغير‏.‏ وأصله‏:‏ عدم بذل المال، ويستعمل مجازاً في منع المقدور من النصر أو الإعانة، وهو يتعدّى إلى الشيء المبخول به بالباء وب ‏{‏على‏}‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏أشّحة على الخير‏}‏ ويتعدى إلى الشخص الممنوع ب ‏{‏على‏}‏ أيضاً لما في الشحّ من معنى الاعتداء فتعديته في قوله تعالى ‏{‏أشحة عليكم‏}‏ من التعدية إلى الممنوع‏.‏

والمعنى‏:‏ يمنعونكم ما في وسعهم من المَال أو المعونة، أي‏:‏ إذا حضروا البأس منعوا فائدتهم عن المسلمين ما استطاعوا ومن ذلك شحّهم بأنفسهم وكل ما يُشحّ به‏.‏

ويجوز جعل ‏{‏على‏}‏ هنا متعدية إلى المضنون به، أي كما في البيت الذي أنشده الجاحظ‏:‏

لقد كنت في قوم عليك أشحة *** بنفسك إلا أنَّ ما طاح طائح

وجعل المعنى‏:‏ أشحة في الظّاهر، أي يظهرون أنهم يخافون عليكم الهلاك فيصدونكم عن القتال ويحسِّنون إليكم الرجوع عن القتال، وهذا الذي ذهب إليه في «الكشاف»‏.‏ وفُرع على وصفهم بالشح على المسلمين قوله ‏{‏فإذا جاء الخوف‏}‏ إلى آخره‏.‏

والمجيء‏:‏ مجاز مشهور من حدوث الشيء وحصوله‏.‏ كما قال تعالى ‏{‏فإذا جاء وعدُ الآخرة‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 7‏]‏‏.‏

و ‏{‏الخوف‏}‏‏:‏ توقع القتال بين الجيشين، ومنه سميت صلاة الخوف‏.‏ والمقصود‏:‏ وصفهم بالجبن، أي‏:‏ إذا رأوا جيوش العدوّ مقبلة رأيتهم ينظرون إليك‏.‏ والظاهر أن الآية تشير إلى ما حصل في بعض أيام الأحزاب من القتال بين الفرسان الثلاثة الذين اقتحموا الخندق من أضيق جهاته وبين علي بن أبي طالب ومن معه من المسلمين كما تقدم‏.‏

والخطاب في رأيتهم‏}‏ للنبيء صلى الله عليه وسلم وهو يقتضي أن هذا حكاية حالة وقعت لا فرض وقوعها ولهذا أتي بفعل ‏{‏رأيتهم‏}‏ ولم يقل‏:‏ فإذا جاء الخوف ينظرون إليك‏.‏ ونظرهم إليه نظرُ المتفرس فيماذا يصنع ولسان حالهم يقول‏:‏ ألسنا قد قلنا لكم إنكم لا قبل لكم بقتال الأحزاب فارجعوا، وهم يرونه أنهم كانوا على حق حين يحذرونه قتال الأحزاب، ولذلك خصّ نظرهم بأنه للنبيء صلى الله عليه وسلم ولم يقل‏:‏ ينظرون إليكم‏.‏ وجيء بصيغة المضارع ليدل على تكرر هذا النظر وتجدده‏.‏

وجملة ‏{‏تدور أعينهم‏}‏ حال من ضمير ‏{‏ينظرون‏}‏ لتصوير هيئة نظرهم نظر الخائف المذعور الذي يحدّق بعينيه إلى جهات يحذر أن تأتيه المصائب من إحداها‏.‏

والدوْر والدوران‏:‏ حركة جسم رَحَوِيَّة أي كحركة الرحى منتقل من موضع إلى موضع فينتهي إلى حيث ابتدأ‏.‏ وأحسب أن هذا الفعل وما تصرف منه مشتقات من اسم الدَّار، وهي المكان المحدود المحيط بسكانِه بحيث يكون حولهم‏.‏ ومنه سميت الدارة لكل أرض تحيط بها جبال‏.‏ وقالوا‏:‏ دارت الرحى حول قُطبها‏.‏ وسموا الصنم‏:‏ دُوَاراً بضم الدال وفتحها لأنه يدور به زائروه كالطواف‏.‏ وسميت الكعبة دُواراً أيضاً، وسموا ما يحيط بالقمر دارة‏.‏ وسميت مصيبة الحرب دائرة لأنهم تخيلوها محيطة بالذي نزلت به لا يجد منها مفرّاً، قال عنترة‏:‏

ولقد خشيت بأن أموت ولم تدر *** في الحرب دائرة على ابنَيْ ضمضم

فمعنى ‏{‏تدور أعينهم‏}‏ أنها تضطرب في أجفانها كحركة الجسم الدائرة من سرعة تنقلها محملقة إلى الجهات المحيطة‏.‏ وشبه نظرهم بنظر الذي يغشى عليه بسبب النزع عند الموت فإن عينيه تضطربان‏.‏

وذهاب الخوف مجاز مشهور في الانقضاء، أي‏:‏ زوال أسبابه بأن يُترك القتال أو يتبين أن لا يقع قتال‏.‏ وذلك عند انصراف الأحزاب عن محاصرة المدينة كما سيدل عليه قوله ‏{‏يحسبون الأحزاب لم يذهبوا‏}‏

‏[‏الأحزاب‏:‏ 20‏]‏‏.‏

والسَلْق‏:‏ قوة الصوت والصياح‏.‏ والمعنى‏:‏ رفعوا أصواتهم بالملامة على التعرض لخطر العدوّ الشديد وعدم الانصياع إلى إشارتهم على المسلمين بمسالمة المشركين، وفسر السلق بأذى اللسان‏.‏ قيل‏:‏ سأل نافعُ بن الأزرق عبد الله بن عباس عن ‏{‏سلقوكم‏}‏ فقال‏:‏ الطعن باللسان‏.‏ فقال نافع‏:‏ هل تعرف العرب ذلك‏؟‏ فقال‏:‏ نعم، أما سمعت قول الأعشى‏:‏

فيهم الخصب والسماحة والنج *** دة فيهم والخَاطب المِسلاق

و ‏{‏حِداد‏:‏ جمع حديد، وحَديد‏:‏ كل شيء نافذُ فعللِ أمثاله قال تعالى ‏{‏فَبَصُرك اليومَ حديد‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 22‏]‏‏.‏

وانتصب ‏{‏أشحة على الخير‏}‏ على الحال من ضمير الرفع في ‏{‏سلقوكم،‏}‏ أي‏:‏ خاصموكم ولامُوكم وهم في حال كونهم أشحة على ما فيه الخير للمسلمين، أي أن خصامهم إياهم ليس كما يبدو خوفاً على المسلمين واستبقاء عليهم ولكنه عن بغض وحقد؛ فإن بعض اللوم والخصام يكون الدافع إليه حُبّ الملوم وإبداء النصيحة له، وأقوال الحكماء والشعراء في هذا المعنى كثيرة‏.‏

ويجوز أن يكون الخير هنا هو المال كقوله تعالى ‏{‏إن ترك خيراً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 180‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإنه لحب الخير لشديد‏}‏ ‏[‏العاديات‏:‏ 8‏]‏، أي‏:‏ هم في حالة السلم يُسرعون إلى مَلامكم ولا يواسونكم بأمْوالهم للتجهيز للعدوّ إن عاد إليكم‏.‏ ودخلت ‏{‏على‏}‏ هنا على المبخول به‏.‏

‏{‏أولئك لَمْ يُؤْمِنُواْ فَأَحْبَطَ الله أعمالهم وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً‏}‏

جيء باسم الإشارة لقصد تمييزهم بتلك الصفات الذميمة التي أجريت عليهم من قبلُ، وللتنبيه على أنهم أحرياء بما سيرد من الحُكم بعد اسم الإشارة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏5‏)‏‏.‏

وقد أجري عليهم حكم انتفاء الإيمان عنهم بقوله أولئك لم يؤمنوا‏}‏ كشفاً لدخائلهم لأنهم كانوا يوهمون المسلمين أنهم منهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا لَقُوا الذين ءامنوا قالوا ءامنا‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏14‏)‏‏.‏ ورتب على انتفاء إيمانهم أن الله أحبط أعمالهم‏.‏

والإحباط‏:‏ جعل شيء حَابطاً، فالهمزة فيه للجَعْل مثل الإذهاب‏.‏ والحَبْط حقيقته‏:‏ أنه فساد ما يراد به الصلاح والنفع‏.‏ ويطلق مجازاً على إفساد ما كان نافعاً أو على كون الشيء فاسداً ويظن أنه ينفع يقال‏:‏ حَبِط حَقُّ فلان، إذا بطل‏.‏ والإطلاق المجازي ورد كثيراً في القرآن‏.‏ وفعله من بابَي سَمِع وضَرَب‏.‏ ومصدره‏:‏ الحَبْط، واسم المصدر‏:‏ الحُبُوط‏.‏ ويقال‏:‏ أحبط فلان الشيء، إذا أبطله، ومنه إحباط دم القتيل، أي‏:‏ إبطال حق القود به‏.‏ فإحباط الأعمال‏:‏ إبطال الاعتداد بالأعمال المقصود بها القُربة والمظنون بها أنها أعمال صالحة لمانع منع من الاعتداد بها في الدين‏.‏

وقد صار لفظ الحبط والحبوط من الألفاظ الشرعية الاصطلاحية بين علماء الفقه والكلام، فأطلق على عدم الاعتداد بالأعمال الصالحة بسبب الردة، أي‏:‏ الرجوع إلى الكفر، أو بسبب زيادة السيئات على الحسنات بحيث يستحق صاحب الأعمال العذاب بسبب زيادة سيئاته على حسناته بحسب ما قدر الله لذلك وهو أعلم به، ومن هذه الجهة عُدّت مسألة الحبوط مع المسائل الكلامية، أو بحيث ينظر في انتفاعه بما فعل من الواجبات عليه إذا ارتد عن الإسلام ثم عاد إلى الإسلام كمن حج ثم ارتد ثم رجع إلى الإسلام، ومن هذه الجهة تُعد مسألة الحبوط في مسائل الفقه، فقال مالك وأبو حنيفة‏:‏ الردةُ تُحبط الأعمال بمجرد حصولها فإذا عاد إلى الإسلام وكان قد حجّ مثلاً قبل ردّته وجبت عليه إعادة الحج تمسكاً بإطلاق هذه الآية إذ ناطت الحُبوط بانتفاء الإيمان، ولم يريا أن هذا مما يحمل فيه المطلق على المقيّد احتياطاً لأن هذا الحكم راجع إلى الاعتقادات ولا يكفي فيها الظن‏.‏

وقال الشافعي‏:‏ إذا رجع إلى الإسلام رجعتْ إليه أعماله الصالحة التي عمِلها قبل الردة تمسكاً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومَن يرتدِدْ منكم عن دينه فيمُت وهو كَافر فأولئك حبِطَتْ أعمالُهُم في الدُّنيا والآخرة‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏217‏)‏ حملاً للمطلق في آية سورة الأحزاب ونحوها على المقيّد في آية سورة البقرة تغليباً للجانب الفروعي في هذه المسألة على الجانب الاعتقادي‏.‏

وتعرف هذه المسألة بمسألة الموافاة، أي‏:‏ استمرار المرتدّ على الردّة إلى انقضاء حياته فيوافي يوم القيامة مرتداً‏.‏ فمالك وأبو حنيفة لم يريا شرط الموافاة والشافعي اعتبر الموافاة‏.‏ والمعتزلة قائلون بمثل ما قال به مالك وأبو حنيفة‏.‏ وحكى الفخر عن المعتزلة اعتبار الموافاة على الكفر، وانظر ما تقدم في قوله تعالى ‏{‏ومن يرتدد منكم عن دينه فيمُت وهو كافر فأولئك حبِطت أعمالهم في الدنيا والآخرة‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏217‏)‏‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم لا تنفعهم قرباتهم ولا جهادهم‏.‏

وجملة وكان ذلك على الله يسيراً‏}‏ خبر مستعمل في لازمه وهو تحقيرهم وأن الله لمَّا أخرجهم من حظيرة الإسلام فأحبط أعمالهم لم يعبأ بهم ولا عَدّ ذلك ثلمة في جماعة المسلمين‏.‏

وكان المنافقون يُدلون بإظهار الإيمان ويحسبون أن المسلمين يعتزون بهم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنُّوا عليّ إسلامكم بل الله يمُنُّ عليكم أن هَداكم للإيمان إن كنتم صادقين‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 17‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏20‏)‏‏}‏

لما ذُكر حال المنافقين والذين في قلوبهم مرض من فتنتهم في المسلمين وإذا هم حين مجيء جنود الأحزاب وحين زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر ثُني عنان الكلام الآن إلى حالهم حين أنعم الله على المسلمين بانكشاف جنود الأحزاب عنهم، فأفاد بأن انكشاف الأحزاب حصل على حين غفلة من المنافقين فلذلك كانوا يشتدّون في ملام المسلمين ويسلِقُونَهم بألسنة حِدَادٍ على أن تَعرضوا للعدوّ الكثير، وكان الله ساعتئذ قد هزم الأحزاب فانصرفوا وكفى الله المؤمنين شرهم، وليس للمنافقين وساطة في ذلك‏.‏ ولعلهم كانوا لا يودّون رجوع الأحزاب دون أن يأخذوا المدينة، فتكون جملة ‏{‏يحسبون‏}‏ استئنافاً ابتدائياً مرتبطاً بقوله ‏{‏اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 9‏]‏ الخ‏.‏‏.‏‏.‏ جاء عوْداً على بدْءٍ بمناسبة ذكر أحوال المنافقين، فإن قوله‏:‏ ‏{‏يحسبون الأحزاب لم يذهبوا‏}‏ يؤذن بانهزام الأحزاب ورجوعهم على أعقابهم، أي‏:‏ وقع ذلك ولم يشعر به المنافقون‏.‏ ويجوز أن يكون المعنى‏:‏ أنهم كانوا يسلقون المؤمنين اعتزازاً بالأحزاب لأن الأحزاب حلفاء لقريظة وكان المنافقون أخلاّء لليهود فكان سلقُهم المسلمين في وقت ذهاب الأحزاب وهم لا يعلمون ذلك ولو علموه لخفَّضوا من شدتهم على المسلمين، فتكون جملة ‏{‏يحسبون‏}‏ حالاً من ضمير الرفع في ‏{‏سلقوكم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 19‏]‏ أي‏:‏ فعلوا ذلك حاسبين الأحزاب محيطين بالمدينة ومعتزين بهم فظهرت خيبتهم فيما قدروا‏.‏

وأما قوله ‏{‏وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب‏}‏ فهو وصف لِجبن المنافقين، أي‏:‏ لو جاء الأحزاب كَرَّة أخرى لأخذ المنافقون حيطتهم فخرجوا إلى البادية بين الأعراب القاطنين حول المدينة وهم غفار وأسلَمُ وغيرهم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ما كان لأهل المدينة ومَن حولهم من الأعراب‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 120‏]‏ الآية‏.‏

والوُدّ هنا مستعمل كناية عن السعي لحصول الشيء المودود لأن الشيء المحبوب لا يمنع من تحصيله إلا مانع قاهر فهو لازم للودّ‏.‏

والبادي‏:‏ ساكن البادية‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى ‏{‏سواءٌ العاكفُ فيه والبادِ‏}‏ في سورة الحج ‏(‏25‏)‏‏.‏

والأعراب‏:‏ هم سكان البوادي بالأصالة، أي‏:‏ يودُّوا الالتحاق بمنازل الأعراب ما لم يعجزوا لما دل عليه قوله عقبه ‏{‏ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلاً‏}‏، أي‏:‏ فلو لم يستطيعوا ذلك فكانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلاً‏.‏

و ‏{‏لو‏}‏ حرف يفيد التمني بعد فعل ودّ ونحوه‏.‏ أنشد الجاحظ وعبد القاهر‏:‏

يَودُّون لو خاطوا عليك جلودهم *** ولا تَمنع الموت النفوسُ الشحائح

وتقدم عند قوله تعالى ‏{‏يودّ أحدُهم لو يُعَمَّر ألف سنة‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏96‏)‏‏.‏

والسؤال عن الأنباء لقصد التجسس على المسلمين للمشركين وليسرّهم ما عسى أن يلحق المسلمين من الهزيمة‏.‏

ومعنى ‏{‏ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلاً‏}‏ أنهم إذا فرض أن لا يتمكنوا من الخروج إلى البادية وبقُوا في المدينة مع المسلمين ما قاتلوا مع المسلمين إلا قتالاً قليلاً، أي‏:‏ ضعيفاً لا يُؤْبَه به، وإنما هو تعلة ورياء، وتقدم نظيره آنفاً‏.‏

والأنباء‏:‏ جمع نبأ وهو‏:‏ الخبر المهم، وتقدم عند قوله تعالى ‏{‏ولقد جاءك من نبأ المرسلين‏}‏ في سورة ‏(‏الأنعام 34‏)‏ وقرأ الجمهور يسألون‏}‏ بسكون السين فهمزة مضارع سأل‏.‏ وقرأ رويس عن يعقوب ‏{‏يَسَّاءلون‏}‏ بفتح السين مشددة وألف بعدها الهمزة مضارع تساءل، وأصله‏:‏ يتساءلون أدغمت التاء في السين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ‏(‏21‏)‏‏}‏

بعد توبيخ المنافقين والذين في قلوبهم مرض أقبل الكلام على خطاب المؤمنين في عموم جماعتهم ثناء على ثباتهم وتأسّيهم بالرسول صلى الله عليه وسلم على تفاوت درجاتهم في ذلك الائتساء، فالكلام خبر ولكن اقترانه بحرفي التوكيد في ‏{‏لقد يومئ إلى تعريض بالتوبيخ للذين لم ينتفعوا بالإسوة الحسنة من المنافقين والذين في قلوبهم مرض فلذلك أتي بالضمير مجملاً ابتداء من قوله لكم،‏}‏ ثم فُصِّل بالبدل منه بقوله ‏{‏لمن كان يرجو الله واليومَ الآخر وذكر الله كثيراً،‏}‏ أي‏:‏ بخلاف لمن لم يكن كأولئك، فاللام في قوله‏:‏ ‏{‏لمن كان يرجو الله‏}‏ توكيد لللام التي في المبدل منه مثل قوله تعالى ‏{‏تكون لنا عيدا لأوّلنا وآخرنا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 114‏]‏، فمعنى هذه الآية قريبٌ من معنى قوله تعالى في سورة براءة في قصة تبوك‏:‏ ‏{‏رَضُوا بأن يكونوا مع الخوالف وطُبع على قلوبهم فهم لا يفقهون لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 87، 88‏]‏ الآية‏.‏

والإسوة بكسر الهمزة وضمها اسم لما يُؤتَسَى به، أي‏:‏ يُقتدى به ويُعمل مثل عمله‏.‏ وحق الأسوة أن يكون المؤتسى به هو القدوة ولذلك فحرف ‏{‏في‏}‏ جاء على أسلوب ما يسمى بالتجريد المفيد للمبالغة إذ يجرد من الموصوف بصفة موصوف مثله ليكون كذاتين، كقول أبي خالد الخارجي‏:‏

وفي الرحمان للضعفاء كَاف ***

أي الرحمان كاففٍ‏.‏ فالأصل‏:‏ رسولُ الله إسوة، فقيل‏:‏ في رسول الله إسوة‏.‏ وجعل متعلقُ الائتساء ذاتَ الرسول دون وصف خاص ليشمل الائتساء به في أقواله بامتثال أوامره واجتناب ما ينهَى عنه، والائتساءَ بأفعاله من الصبر والشجاعة والثبات‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏إسوة‏}‏ بكسر الهمزة‏.‏ وقرأ عاصم بضم الهمزة وهما لغتان‏.‏

و ‏{‏لمن كان يرجو الله‏}‏ بدل من الضمير في ‏{‏لكم‏}‏ بدل بعض من كل أو شبه الاشتمال لأن المخاطبين بضمير ‏{‏لكم‏}‏ يشتملون على من يرجون الله واليوم الآخر، أو هو بدل مطابق إن كان المراد بضمير ‏{‏لكم‏}‏ خصوص المؤمنين، وفي إعادة اللام في البدل تكثير للمعاني المذكورة بكثرة الاحتمالات وكل يأخذ حظه منها‏.‏

فالذين ائتسوا بالرسول صلى الله عليه وسلم يومئذ ثبت لهم أنهم ممن يرجون الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً‏.‏ وفيه تعريض بفريق من الذين صدّهم عن الائتساء به ممن كانوا منافقين أو في قلوبهم مرض من الشك في الدين‏.‏

وفي الآية دلالة على فضل الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وأنه الإسوة الحسنة لا محالة ولكن ليس فيها تفصيل وتحديد لمراتب الائتساء والواجب منه والمستحب وتفصيله في أصول الفقه‏.‏ واصطلاحُ أهل الأصول على جعل التأسّي لقبَاً لاتِّباع الرسول في أعماله التي لم يطالب بها الأمة على وجه التشريع‏.‏ وذكر القرطبي عن الخطيب البغدادي أنه روي عن عقبة بن حسان الهَجَري عن مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر‏:‏ ‏{‏لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة‏}‏ قال‏:‏ في جوع النبي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ‏(‏22‏)‏‏}‏

لما ذكرت أقوال المنافقين والذين في قلوبهم مرض المؤذنة بما يداخل قلوبهم من الخوف وقلة الإيمان والشك فيما وعد الله به رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من النصر ابتداء من قوله ‏{‏وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 12‏]‏ قوبلت أقوال أولئك بأقوال المؤمنين حينما نزلت بهم الأحزاب ورأوا كثرتهم وعددهم وكانوا على بصيرة من تفوقهم عليهم في القوة والعدد أضعافاً وعلموا أنهم قد ابتلوا وزلزلوا، كل ذلك لم يُخِرْ عزائمهم ولا أدخل عليهم شكاً فيما وعدهم الله من النصر‏.‏

وكان الله وعدهم بالنصر غير مرة منها قوله في سورة البقرة ‏{‏أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مَسَّتْهُمُ البأساءُ والضَّراءُ وزُلْزِلُوا حتى يقولُ الرسول والذين ءامنوا معه مَتَى نصرُ الله ألا إن نصر الله قريب‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 214‏]‏‏.‏ فلما رأى المسلمون الأحزاب وابتُلوا وزُلْزِلوا ورأوا مثل الحالة التي وصفت في تلك الآية علموا أنهم منصورون عليهم، وعلموا أن ذلك هو الوعد الذي وعدهم الله بآية سورة البقرة‏.‏ وكانت آية البقرة نزلت قبل وقعة الأحزاب بعام، كذا روي عن ابن عباس، وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر المسلمين‏:‏ أن الأحزاب سائرون إليكم بعد تسع أو عشر، فلما رأى المؤمنون الأحزاب وزُلزلوا راجعهم الثبات الناشئ عن قوة الإيمان وقالوا‏:‏ ‏{‏هذا ما وعدنا الله ورسوله‏}‏ أي‏:‏ من النظر ومن الإخبار بمسير الأحزاب وصدَّقوا وعد الله إياهم بالنصر وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم بمسير الأحزاب، فالإشارة ‏{‏بهذا‏}‏ إلى ما شاهدوه من جيوش الأحزاب وإلى ما يتبع ذلك من الشدة والصبر عليها وكل ذلك وعد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ثم أخبروا عن صدق الله ورسوله عليه الصلاة والسلام فيما أخبرا به وصدَقوا الله فيما وعدهم من النصر خلافاً لقول المنافقين‏:‏ ‏{‏ما وعدنا الله ورسوله إلاّ غروراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 12‏]‏ فالوعد راجع إلى الأمرين والصدق كذلك‏.‏

والوعد‏:‏ إخبار مخبر بأنه سيعمل عملاً للمُخبَر بالفتح‏.‏

ففعل ‏{‏صدق‏}‏ فيما حكي من قول المؤمنين ‏{‏وصدق الله ورسوله‏}‏ مستعمل في الخبر عن صدق مضى وعن صدق سيقع في المستقبل محقق وقوعه بحيث يُجعل استقباله كالمضي مثل ‏{‏أتى أمرُ الله‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 1‏]‏ فهو مستعمل في معنى التحقق‏.‏ أو هو استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، ولا شك أن محمل الفعل على الصدق في المستقبل أنسب بمقام الثناء على المؤمنين وأعلق بإناطة قولهم بفعل ‏{‏رأى المؤمنون الأحزاب‏}‏ دون أن يقال‏:‏ ولما جاءت الأحزاب‏.‏ فإن أبيتَ استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه فاقصره على المجاز واطرح احتمال الإخبار عن الصدق الماضي‏.‏

وضمير ‏{‏زادهم‏}‏ المستتر عائد إلى ما عاد إليه اسم الإشارة، أي‏:‏ وما زادهم ما رأوا إلا إيماناً وتسليماً، أي‏:‏ بعكس حال المنافقين إذ زادهم شكاً في تحقق الوعد، والمعنى‏:‏ وما زاد ذلك المؤمنين إلا إيماناً، أي‏:‏ ما زاد في خواطر نفوسهم إلا إيماناً، أي‏:‏ لم يزدهم خوفاً على الخوف الذي من شأنه أن يحصل لكل مترقِّب أن ينازله العدوّ الشديد، بل شغلهم عن الخوف والهلع شاغل الاستدلال بذلك على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبرهم به وفيما وعدهم الله على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام من النصر فأعرضت نفوسهم عن خواطر الخوف إلى الاستبشار بالنصر المترقب‏.‏

والتسليم‏:‏ الانقياد والطاعة لأن ذلك تسليمُ النفس للمنقاد إليه، وتقدم في قوله تعالى ‏{‏ويسلّموا تسليماً‏}‏ في سورة النساء ‏(‏65‏)‏‏.‏ ومن التسليم هنا تسليم أنفسهم لملاقاة عدوّ شديد دون أن يتطلبوا الإلقاء بأيديهم إلى العدوّ وأن يصالحوه بأموالهم‏.‏ فقد ذكر ابن إسحاق وغيره أنه لما اشتدّ البلاء على المسلمين استشار رسول الله السعدَيْن سعدَ بن عُبادة وسعدَ بن معاذ في أن يعطي ثلث ثمار المدينة تلك السنة عيينةَ بنَ حصن، والحارثَ بن عوف وهما قائدا غطفان على أن يرجعا عن المدينة، فقالا‏:‏ يا رسول الله أهو أمر تحبه فنصنعه، أم شيء أمرك الله به لا بدّ لنا من العمل به، أم شيء تصنعه لنا‏؟‏ قال رسول الله‏:‏ بل شيء أصنعه لكم والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب قد رمتْكم عن قوس واحد وكَالَبُوكم من كل جانب فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمرٍ مَّا‏.‏ فقال سعد بن معاذ‏:‏ يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله لا نعبد الله ولا نعرفه وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة واحدة إلا قِرى أو بَيْعاً أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا إليه وأعزَّنا بك وبه نعطيهم أموالنا‏؟‏ ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيفَ حتى يحكم الله بيننا وبينهم، قال رسول الله‏:‏ فأنت وذاك‏.‏ فهذا موقف المسلمين في تلك الشدة وهذا تسليم أنفسهم للقتال‏.‏

ومن التسليم الرضى بما يأمر به الرسول من الثبات معه كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويُسَلِّمُوا تَسلِيماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 65‏]‏‏.‏

وإذ قد علم أنهم مؤمنون لقوله ‏{‏ولمَّا رأى المؤمنون الأحزاب‏}‏ إلى آخره‏.‏‏.‏‏.‏ فقد تعين أن الإيمان الذي زادهم ذلك هو زيادة على إيمانهم، أي‏:‏ إيمان مع إيمانهم‏.‏

والإيمان الذي زادهُمُوه أريد به مظهر من مظاهر إيمانهم القويّ، فجعل تكرر مظاهر الإيمان وآثاره كالزيادة في الإيمان لأن تكرر الأعمال يقوِّي الباعث عليها في النفس يباعد بين صاحبه وبين الشك والارتداد فكأنه يزيد في ذلك الباعث، وهذا من قبيل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 4‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فأما الذين ءامنوا فزادتهم إيماناً‏}‏ كما تقدم في سورة براءة ‏(‏124‏)‏، فكذلك القول في ضد الزيادة وهو النقص، وإلا فإن حقيقة الإيمان وهو التصديق بالشيء إذا حصلت بمقوماتها فهي واقعة، فزيادتها تحصيل حاصل ونقصها نقض لها وانتفاء لأصلها‏.‏ وهذا هو محمل ما ورد في الكتاب والسنة من إضافة الزيادة إلى الإيمان وكذلك ما يضاف إلى الكفر والنفاق من الزيادة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الأعراب أشدُّ كُفْراً ونِفاقاً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 97‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 125‏]‏‏.‏ وإلى هذا المحمل يرجع خلاف الأيمة في قبول الإيمان الزيادة والنقص فيؤول إلى خلاف لفظي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ‏(‏23‏)‏‏}‏

أعقب الثناء على جميع المؤمنين الخلص على ثباتهم ويقينهم واستعدادهم للقاء العدوّ الكثير يومئذ وعزمهم على بذل أنفسهم ولم يقدر لهم لقاؤه كما يأتي في قوله ‏{‏وكفى الله المؤمنين القتال‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 25‏]‏ بالثناء على فريق منهم كانوا وَفَّوْا بما عاهدوا الله عليه وفاءً بالعمل والنية، ليحصل بالثناء عليهم بذلك ثناء على إخوانهم الذين لم يتمكنوا من لقاء العدوّ يومئذ ليعلم أن صدق أولئك يؤذن بصدق هؤلاء لأن المؤمنين يدٌ واحدة‏.‏

والإخبار عنهم برجال زيادة في الثناء لأن الرجُل مشتق من الرِّجْل وهي قوة اعتماد الإنسان كما اشتق الأيد من اليَد، فإن كانت هذه الآية نزلت مع بقية آي السورة بعد غزوة الخندق فهي تذكير بما حصل من المؤمنين من قبل، وإن كانت نزلت يوم أُحُد فموضعها في هذه السورة إنما هو بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم فهو تنبيه على المعنى الذي ذكرناه على تقدير‏:‏ أنها نزلت مع سورة الأحزاب‏.‏ وأيَّا مَّا كان وقتُ نزول الآية فإن المراد منها‏:‏ رجال من المؤمنين ثبتوا في وجه العدو يوم أُحُد وهم‏:‏ عثمان بن عفان، وأنس بن النضر، وطلحة بن عبيد الله، وحمزة، وسعيد بن زيد، ومصعب بن عمير‏.‏ فأما أنس بن النضر وحمزة ومصعب بن عمير فقد استُشهدوا يومَ أُحُد، وأما طلحة فقد قُطِعت يده يومئذ وهو يدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما بقيتهم فقد قاتلوا ونجوا‏.‏ وسياق الآية وموقعها يقتضيان أنها نزلت بعد وقعة الخندق‏.‏ وذكر القرطبي رواية البيهقي عن أبي هريرة‏:‏ «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف من أُحُد مرّ على مصعب بن عمير وهو مقتول على طريقه فوقف ودعا له ثمّ تلا ‏{‏من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه الآية‏.‏‏}‏

ومعنى ‏{‏صدقوا ما عاهدوا الله عليه‏}‏ أنهم حققوا ما عاهدوا عليه فإن العهد وعد وهو إخبار بأنه يفعل شيئاً في المستقبل فإذا فعله فقد صدق‏.‏ وفعل الصدق يستعمل قاصراً وهو الأكثر، ويستعمل متعدياً إلى المخبَر بفتح الباء يقال‏:‏ صدقه الخبر، أي قال له الصدق، ولذلك فإن تعديته هنا إلى ‏{‏ما عاهدوا الله عليه‏}‏ إنما هو على نزع الخافض، أي‏:‏ صدقوا فيما عاهدوا الله عليه، كقولهم في المثل‏:‏ صدقني سنَّ بَكْرِه، أي‏:‏ في سن بكره‏.‏

والنحب‏:‏ النذر وما يلتزمه الإنسان من عهد ونحوه، أي‏:‏ من المؤمنين مَن وفّى بما عاهد عليه من الجهاد كقول أنس بن النضرْ حين لم يشهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبُر ذلك عليه وقال‏:‏ أولُ مشهد شَهده رسول الله غبت عنه، أما والله لئن أراني الله مَشهداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بعد ليرَيَّن الله ما أصنع فشهد أُحُداً وقاتل حتى قُتل‏.‏

ومثل الذين شهدوا أيام الخندق فإنهم قَضَوْا نحبهم يوم قريظة‏.‏

وقد حمل بعض المفسرين ‏{‏قضَى نحبه‏}‏ في هذه الآية على معنى الموت في الجهاد على طريقة الاستعارة بتشبيه الموت بالنذر في لزوم الوقوع، وربما ارتقى ببعض المفسرين ذلك إلى جعل النحب من أسماء الموت، ويمنع منه ما ورد في حديث الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في طلحة بن عبيد الله‏:‏ «إنه ممن قَضَى نَحْبَه» وهو لم يمت في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم

وأما قوله ‏{‏وما بدلوا تبديلاً‏}‏ فهو في معنى ‏{‏صدقُوا ما عاهدوا الله عليه‏}‏ وإنما ذكر هنا للتعريض بالمنافقين الذين عاهدوا الله لا يولُّون الأدبار ثم ولوا يوم الخندق فرجعوا إلى بيوتهم في المدينة‏.‏ وانتصب ‏{‏تبديلاً‏}‏ على أنه مفعول مطلق موكِّد ل ‏{‏بدّلوا‏}‏ المنفي‏.‏ ولعل هذا التوكيد مسوق مساق التعريض بالمنافقين الذين بدّلوا عهد الإيمان لما ظنوا أن الغلبة تكون للمشركين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏24‏)‏‏}‏

لام التعليل يتنازعه من التعلق كل من ‏{‏صدقوا‏}‏ و‏{‏ما بَدلوا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 23‏]‏ أي‏:‏ صدق المؤمنون عهدهم وبدَّله المنافقون ليجزي الله الصادقين ويعذّب المنافقين‏.‏

ولام التعليل بالنسبة إلى فعل ‏{‏ليجزي الله الصادقين‏}‏ مستعمل في حقيقة معناه، وبالنسبة إلى فِعل ‏{‏ويُعذب‏}‏ مستعار لمعنى فاء العاقبة تشبيهاً لعاقبة فعلهم بالعلة الباعثة على ما اجترحُوه من التبديل والخيس بالعهد تشبيهاً يفيد عنايتهم بما فعلوه من التبديل حتى كأنهم ساعون إلى طلب ما حَقَّ عليهم من العذاب على فعلهم، أو تشبيهاً إياهم في عنادهم وكيدهم بالعالم بالجزاء الساعي إليه وإن كان فيه هلاكه‏.‏

والجزاء‏:‏ الثواب لأن أكثر ما يستعمل فعل جَزى أن يكون في الخير، ولأن ذكر سبب الجزاء وهو ‏{‏بصدقهم‏}‏ يدل على أنه جزاء إحسان، وقد جاء الجزاء في ضد ذلك في قوله تعالى ‏{‏اليوم تُجْزَوْن عذابَ الهون‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏93‏)‏‏.‏ وإظهار اسم الجلالة في مقام إضماره للدلالة على عظمة الجزاء‏.‏

وتعليق التعذيب على المشيئة تنبيه لهم بسَعَة رحمة الله وأنه لا يقطع رجاءهم في السعي إلى مغفرة ما أتوه بأن يتُوبوا فيتوب الله عليهم فلما قابل تعذيبه إياهم بتوبته عليهم تعين أن التعذيب باققٍ عند عدم توبتهم لقوله في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏إن الله لا يغفر أن يُشْرَك به‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 48‏]‏‏.‏ والتوبة هنا هي التوبة من النفاق، أي‏:‏ هي إخلاص الإيمان، وقد تاب كثير من المنافقين بعد ذلك، منهم معتِّب بن قشير‏.‏

وجملة ‏{‏إن اللَّه كان غفوراً رحيماً‏}‏ تعليل للجزاء والتعذيب كليهما على التوزيع، أي غفور للمذنب إذا أناب إليه، رحيم بالمحسن أن يجازيه على قدر نصبه‏.‏

وفي ذكر فعل كان‏}‏ إفادة أن المغفرة والرحمة صفتان ذاتيتان له كما قدمناه غير مرة، من ذلك عند قوله تعالى ‏{‏أكان للناس عجباً أن أوحينا‏}‏ في أول سورة يونس ‏(‏2‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ‏(‏25‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏فأرسلنا عليهم ريحاً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 9‏]‏ وهو الأنسب بسياق الآيات بعدها، أي أرسل الله عليهم ريحاً وردّهم، أو حال من ضمير ‏{‏يحسبون الأحزاب لم يذهبوا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 20‏]‏، أي‏:‏ يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وقد رد الله الأحزاب فذهبوا‏.‏

والرد‏:‏ الإرجاع إلى المكان الذي صُدر منه فإنَّ ردهم إلى ديارهم من تمام النعمة على المسلمين بعد نعمة إرسال الريح عليهم لأن رجوعهم أعمل في اطمئنان المسلمين‏.‏ وعُبر عن الأحزاب بالذين كفروا للإيماء إلى أن كفرهم هو سبب خيبتهم العجيبة الشأن‏.‏

والباء في ‏{‏بغيظهم‏}‏ للملابسة، وهو ظرف مستقرّ في موضع الحال، أي‏:‏ ردهم مُغِيظين‏.‏

وإظهار اسم الجلالة دون ضمير المتكلم للتنبيه على عظم شأن هذا الرد العجيب كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليجزي الله الصادقين بصدقهم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 24‏]‏‏.‏

والغيظ‏:‏ الحَنق والغضب، وكان غضبهم عظيماً يناسب حال خيبتهم لأنهم تجشموا كلفة التجمّع والإنفاق وطولِ المكث حول المدينة بلا طائل وخابت آمالهم في فتح المدينة وأكل ثمارها وإفناء المسلمين، وهم يحسبون أنها منازلة أيام قليلة، ثم غاظهم ما لحقهم من النكبة بالريح والانهزام الذي لم يعرفوا سببه‏.‏

وجملة ‏{‏لم ينالوا خيراً‏}‏ حال ثانية‏.‏ ولك أن تجعل جملة ‏{‏لم ينالوا خيراً‏}‏ استئنافاً بيانياً لبيان موجب غيظهم‏.‏

و ‏{‏كفى‏}‏ بمعنى أغنى، أي‏:‏ أراحهم من كلفة القتال بأن صرف الأحزاب‏.‏ و‏{‏كفى‏}‏ بهذا المعنى تتعدى إلى مفعولين يقال‏:‏ كفيتُك مُهمك وليست هي التي تزاد الباء في مفعولها فتلك بمعنى‏:‏ حسب‏.‏

وفي قوله ‏{‏وكفى الله المؤمنين القتال‏}‏ حذف مضاف، أي كلفة القتال، أو أرزاء القتال، فإن المؤمنين كانوا يومئذ بحاجة إلى توفير عددهم وعُددهم بعد مصيبة يوم أُحُد ولو التقوا مع جيش المشركين لكانت أرزاؤهم كثيرة ولو انتصروا على المشركين‏.‏

والقول في إظهار اسم الجلالة في قوله ‏{‏وكفى الله المؤمنين القتال‏}‏ كالقول في ‏{‏وردّ اللَّه الذين كفروا بغيظهم‏.‏

وجملة ‏{‏وكان الله قوياً عزيزاً‏}‏ تذييل لجملة ‏{‏وردّ الله الذين كفروا‏}‏ إلى آخرها‏.‏

والقوة‏:‏ القدرة، وقد تقدمت في قوله ‏{‏لو أنّ لي بكم قوة‏}‏ في سورة ‏[‏هود‏:‏ 80‏]‏‏.‏

والعزة‏:‏ العظمة والمنعة، وتقدمت في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أخذته العزّة بالإثم‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 206‏]‏‏.‏

وذكر فعل ‏{‏كان‏}‏ للدلالة على أن العزة والقوة وصفان ثابتان لله تعالى، ومن تعلُّقات قوتِه وعزته أن صرف ذلك الجيش العظيم خائبين مفتضحين وألقى بينه وبين أحلافه من قريظة الشك، وأرسل عليهم الريح والقرّ، وهدَى نُعيماً بن مسعود الغطفاني إلى الإسلام دون أن يشعر قومه فاستطاع النصح للمسلمين بالكَيد للمشركين‏.‏ ذلك كله معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 27‏]‏

‏{‏وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا ‏(‏26‏)‏ وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ‏(‏27‏)‏‏}‏

كان يهود قريظة قد أعانوا الأحزاب وحاصروا المدينة معهم وكان حُيَيّ بنُ أخطب من بني النضير منضماً إليهم وهو الذي حرّض أبا سفيان على غزو المدينة‏.‏ فلما صرف الله الأحزاب أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يغزو قريظة وهم فريق من اليهود يعرفون ببني قريظة وكانت منازلهم وحُصونهم بالجَنوب الشرقي من المدينة تعرف قريتهم باسمهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عاد إلى المدينة من الخندق ظُهراً وكان بصدد أن يغتسل ويَستقر فلما جاءه الوحي بأن يغزو قريظة نادى في الناس أنْ لا يصليَنَّ أحدُكم العصر إلا في بني قريظة‏.‏ وخرج الجيش الذي كان بالخندق معه فنزلوا على قرية قريظة واستعصم أهل القرية بحصونهم فحاصرهم المسلمون نحواً من عشرين ليلة، فلما جهدهم الحصار وخامرهم الرعب من أن يفتح المسلمون بلادهم فيستأصلوهم طمِعوا أن يطلبوا أن يسلموا بلادهم على أن يحكّم حكَم في صفة ذلك التسليم‏.‏ ويقال لهذا النوع من المصالحة‏:‏ النزول على حُكم حَكَم، فأرسلوا شَاس بن قيس إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعرضون أن ينزلوا على مثل ما نزلت عليه بنو النضير من الجَلاء على أن لهم ما حَملَتْ الإبلُ إلا الحَلَقة، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبول ذلك وبعد مداولات نزلوا على حكم سَعْد بن معاذ، فحكم سعد أن تقتل المقَاتِلة وتُسبَى النساء والذَّراري وأن تكون ديارهم للمهاجرين دون الأنصار فأمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حكم به سعد كما هو مفصل في السيرة‏.‏

ومعنى ‏{‏ظاهروهم‏}‏ ناصروهم وأعانوهم، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولم يظاهروا عليكم أحداً‏}‏ في سورة براءة ‏(‏4‏)‏‏.‏

والإنزال‏:‏ الإهباط، أي‏:‏ من الحصون أو من المعتصمات كالجبال‏.‏

والصياصي‏:‏ الحصون، وأصلها أنها جمع صِيصَيَة وهي القَرْن للثَّوْر ونحوه‏.‏ قال عبد بني الحسحاس‏:‏

فأصبحت الثيرانُ غرقَى وأصبحت *** نساءُ تميم يلتقطن الصَّيَاصيا

أي‏:‏ القرون لبيعها‏.‏ كانوا يستعملون القرون في مناسِج الصوف ويتخذون أيضاً منها أوعية للكحل ونحوه، فلما كان القرن يدافع به الثوْر عن نفسه سمي المَعقل الذي يعتصم به الجيش صيصية والحصونُ صياصيَ‏.‏

والقذف‏:‏ الإلقاء السريع، أي‏:‏ جعل الله في قلوبهم الرعب بأمره التكويني فاستسلموا ونزلوا على حكم المسلمين‏.‏ والفريق الذين قُتلوا هم الرجال وكانوا زهاء سبعمائة والفريق الذين أُسروا هم النساء والصبيان‏.‏

والخطاب من قوله فريقاً تقتلون‏}‏ إلى آخره‏.‏‏.‏‏.‏ للمؤمنين تكملة للنعمة التي أنبأ عنها قوله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين ءامنوا اذكروا نِعمة الله عليكم إذْ جاءَتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 9‏]‏ الآية، أي‏:‏ فأهلكنا الجنود وردهم الله بغيظهن وسلطكم على أحلافهم وأنصارهم‏.‏ وتقديم المفعول في ‏{‏فريقاً تقتلون‏}‏ للاهتمام بذكره لأن ذلك الفريق هم رجال القبيلة الذين بقتلهم يتم الاستيلاء على الأرض والأموال والأسرى، ولذلك لم يقدم مفعول ‏{‏تأسرون‏}‏ إذ لا داعي إلى تقديمه فهو على أصله‏.‏

وقوله ‏{‏وأرضاً لم تطؤوها‏}‏ أي‏:‏ تنزلوا بها غزاةً وهي أرض أُخرى غير أرض قريظة وصفت بجملة ‏{‏لم تَطَؤُوها‏}‏ أي‏:‏ لم تمشوا فيها‏.‏ فقيل‏:‏ إن الله بشرهم بأرض أخرى يرثونها من بعد‏.‏ قال قتادة‏:‏ كنا نحدث أنها مكة‏.‏ وقال مقاتل وابن رومان‏:‏ هي خيبر، وقيل‏:‏ أرض فارس والروم‏.‏ وعلى هذه التفاسير يتعين أن يكون فعل ‏{‏أورثكم‏}‏ مستعملاً في حقيقته ومجازه؛ فأما في حقيقته فبالنسبة إلى مفعوله وهو ‏{‏أرضهم وديارهم وأموالهم،‏}‏ وأما استعماله في مجازه فبالنسبة إلى تعديته إلى ‏{‏أرضاً لم تطؤوها،‏}‏ أي‏:‏ أن يورثكم أرضاً أخرى لم تطؤوها، من باب‏:‏ ‏{‏أتى أمر الله‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 1‏]‏ أو يُؤوَّل فعل ‏{‏أورثكم‏}‏ بمعنى‏:‏ قَدَّر أن يُوَرِّثكم‏.‏ وأظهر هذه الأقوال أنها أرض خيبر فإن المسلمين فتحوها بعد غزوة قريظة بعام وشهر‏.‏ ولعلّ المخاطبين بضمير ‏{‏أورثكم‏}‏ هم الذين فتحوا خيبر لم ينقص منهم أحد أو فقد منه القليل ولأن خيبر من أرض أهل الكتاب وهم ممن ظاهروا المشركين فيكون قصدُها من قوله ‏{‏وأرضاً‏}‏ مناسباً تمام المناسبة‏.‏

وفي التذييل بقوله ‏{‏وكان الله على كل شيء قديراً‏}‏ إيماء إلى البشارة بفتح عظيم يأتي من بعده‏.‏

وعندي‏:‏ أن المراد بالأرض التي لم يَطؤوها أرض بني النضير وأن معنى ‏{‏لم تطؤوها‏}‏ لم تفتحوها عنوة، فإن الوطء يطلق على معنى الأخذ الشديد، قال الحارث بن وَعْلَة الذهلي‏:‏

وطَأَتَنا وَطْئاً على حَنَق *** وَطْءَ المقيَّد نابت الهَرْم

ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولولا رجالٌ مؤمنون ونساءٌ مؤمناتٌ لم تعلموهم أن تطؤوهم‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 25‏]‏، فإن أرض بني النضير كانت مما أفاء الله على رسوله من غير إيجاف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 29‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ‏(‏28‏)‏ وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏29‏)‏‏}‏

يستخلص مما ذكره ابن عطية رواية عن ابن الزبير ومما ذكره أبو حيان في «البحر المحيط» وغير ذلك‏:‏ أن وجه اتصال هذه الآيات بما قبلها أنه لما فُتحت على المسلمين أرض قريظة وغنموا أموالهم وكانت أرض النضير قُبيل ذلك فَيْئاً للنبيء صلى الله عليه وسلم حسب أزواج رسول الله أن مثَلَه مَثَل أحد من الرجال إذا وُسّع عليهم الرزق توسَّعوا فيه هم وعيالهم فلم يكن أزواج النبي عليه الصلاة والسلام يسألنَه توسعة قبل أن يفيء الله عليه من أهل النضير وقبل أن يكون له الخمس من الغنائم، فلما رأين النبي صلى الله عليه وسلم جعل لنفسه ولأزواجه أقواتهم من مال الله ورأين وفرة ما أفاءَ الله عليه من المال حسبْنَ أنه يوسِّع في الإنفاق فصار بعضهُنّ يستكثرنه من النفقة كما دل عليه قول عمر لحفصة ابنته أمّ المؤمنين‏:‏ «لا تستكثري النبي ولا تُراجعيه في شيء وسَلِيني ما بَدا لكِ»‏.‏ ولكن الله أقام رسوله صلى الله عليه وسلم مقاماً عظيماً فلا يتعلق قلبه بمتاع الدنيا إلا بما يقتضيه قوام الحياة وقد كان يقول‏:‏ ‏"‏ ما لي وللدنيا ‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏ حُبِّبَ إليّ من دنياكم النساء والطيب ‏"‏‏.‏ وقد بينتُ وجه استثناء هذين في رسالة كتبتُها في الحكمة الإلهية من رياضة الرسول عليه الصلاة والسلام نفسه بتقليل الطعام‏.‏

وقال عمر‏:‏ «كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يُوجِف المسلمون عليه من خَيْل ولا رِكاب فكانت لرسول الله خالصة ينفق منها على أهله نفقة سنتهم ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عُدة للمسلمين»‏.‏ وقد علمتَ أن أرض قريظة قسمت على المهاجرين بحُكْم سعد بن معاذ، فلعل المهاجرين لما اتسعت أرزاقهم على أزواجهم أمّل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يكنَّ كالمهاجرين فأراد الله أن يعلمهُنّ سِيرة الصالحات في العيش وغيره‏.‏ وقد روي أن بعضهن سألْنَه أشياء من زينة الدنيا فأوحى إلى رسوله بهذه الآيات المتتابعات‏.‏ وهذا مما يؤذن به وقعُ هذه الآيات عقب ذكر وقعة قريظة وذكر الأرض التي لم يَطؤوها وهي أرض بني النضير‏.‏

وإذ قد كان شأن هذه السيرة أن يشق على غالب الناس وخاصة النساء أمَر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن ينبئ أزواجه بها ويخيّرهُنّ عن السّيْر عليها تبعاً لحاله وبين أن يفارقَهُنّ‏.‏ لذا فافتتاحُ هذه الأحكام بنداء النبي صلى الله عليه وسلم ب‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي‏}‏ تنبيه على أن ما سيذكر بعد النداء له مزيد اختصاص به وهو غرض تحديد سيرة أزواجه معه سيرة تناسب مرتبة النبوءة، وتحديد تزوجه وهو الغرض الثاني من الأغراض التي تقدم ذكرها في قوله

‏{‏يا أيها النبي اتق الله‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 1‏]‏‏.‏

والأزواج المعنيات في هذه الآية هن أزواجه التسع اللاتي تُوفّي عليهن‏.‏ وهن‏:‏ عائشة بنت أبي بكر الصديق، وحفصة بنت عمر بن الخطاب، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وأم سَلَمة بنت أمية المخزومية، وجويرية بنت الحارث الخزاعية، وميمونة بنت الحارث الهلالية من بني عامر بن صعصعة، وسَوْدة بنت زَمعة العامرية القرشية، وزينبُ بنت جَحْش الأسدية، وصفية بنت حُيَيّ النضيرية‏.‏ وأما زينب بنت خزيمة الهلالية الملقبة أمّ المساكين فكانت متوفاة وقت نزول هذه الآية‏.‏

ومعنى ‏{‏إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها‏}‏‏:‏ إن كنتن تُؤثرن ما في الحياة من الترف على الاشتغال بالطاعات والزهد، فالكلام على حذف مضاف يقدر صالحاً للعموم إذ لا دليل على إرادة شأن خاص من شؤون الدنيا‏.‏ وهذه نكتة تعدية فعل ‏{‏تُرِدْنَ‏}‏ إلى اسم ذات ‏{‏الحياة‏}‏ دون حال من شؤونها‏.‏

وعطفُ ‏{‏زينتَها‏}‏ عطف خاص على عام، وفي عطفه زيادة تنبيه على أن المضاف المحذوف عام، وأيضاً ففعل ‏{‏تردْنَ‏}‏ يؤذن باختيار شيء على غيره فالمعنى‏:‏ إن كنتن ترِدْنَ الانغماس في شؤون الدنيا، وقد دلت على هذا مقابلته بقوله‏:‏ ‏{‏وإن كنتُنّ ترِدْنَ الله ورسوله‏}‏ كما سيأتي‏.‏

و ‏{‏تعالين‏:‏‏}‏ اسم فعل أمْر بمعنى‏:‏ أقبِلْنَ، وهو هنا مستعمل تمثيلاً لحال تَهَيُّؤ الأزواج لأخذ التمتيع وسماع التسريح بحال من يُحضر إلى مكان المتكلم‏.‏ وقد مضى القول على ‏(‏تعال‏)‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقل تعالوا ندع أبناءَنا وأبناءكم‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏61‏)‏ والتمتيع‏:‏ أن يُعطي الزوج امرأته حين يطلقها عطيةً جبْراً لخاطرها لما يعرض لها من الانكسار‏.‏ وتقدم الكلام عليها مفصلاً عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومَتِّعُوهُنّ على المُوسِع قَدْرهُ وعلى المُقْتِرِ قدْرُه متاعاً بالمَعْروف‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏236‏)‏‏.‏ وجزم أمتعْكُنَّ‏}‏ في جواب ‏{‏تعالَيْن‏}‏ وهو اسم فعل أمر وليس أمْراً صريحاً فجَزْمُ جوابه غير واجب فجيء به مجزوماً ليكون فيه معنى الجزاء فيفيد حصول التمتيع بمجرد إرادة إحداهن الحياة الدنيا‏.‏

والسراح‏:‏ الطلاق، وهو من أسمائه وصيغه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فأمسكوهن بمعروف أو سَرِّحُوهُنَّ بمعروف‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 231‏]‏‏.‏

والجميل‏:‏ الحَسَن حُسناً بمعنى القبول عند النفس، وهو الطلاق دون غضب ولا كراهية لأنه طلاق مراعىً فيه اجتناب تكليف الزوجة ما يشقّ عليها‏.‏ وليس المذكور في الآية من قبيل التخيير والتمليك اللذين هما من تفويض الطلاق إلى الزوجة، وإنما هذا تخيير المرأة بين شيئين يكون اختيارها أحدهما داعياً زوجها لأن يطلقها إن أراد ذلك‏.‏

ومعنى ‏{‏وإن كنتن تردن الله ورسوله‏}‏ إن كنتن تُؤْثِرْنَ الله على الحياة الدنيا، أي‏:‏ تؤثرن رضى الله لما يريده لرسوله، فالكلام على حذف مضاف‏.‏ وإرضاء الله‏:‏ فعل ما يحبه الله ويقرب إليه، فتعدية فعل ‏{‏تردن‏}‏ إلى اسم ذات الله تعالى على تقدير تقتضيه صحة تعلق الإرادة باسم ذات لأن الذات لا تراد حقيقة فوجب تقدير مضاف ولزم أن يقدر عاماً كما تقدم‏.‏

وإرادة رضى الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك على تقدير، أي‏:‏ كل ما يرضي الرسول عليه الصلاة والسلام، وأول ذلك أن يَبْقَيْنَ في عشرته طيّبات الأنفس‏.‏

وإرادة الدار الآخرة‏:‏ إرادة فَوْزها، فالكلام على حذف مضاف يقتضيه المقام أيضاً، فأسلوب الكلام جرى على إناطة الحكم بالأعيان وهو أسلوب يقتضي تقديراً في الكلام من قبيل دلالة الاقتضاء‏.‏ وفي حذف المضافات وتعليق الإرادة بأسماء الأعيان الثلاثة مقصدُ أن تكون الإرادة متعلقة بشؤون المضاف إليه التي تتنزل منزلة ذاتِه مع قضاء حق الإيجاز بعد قضاء حق الإعجاز‏.‏ فالمعنى‏:‏ إن كنتُنّ تؤثرْن ما يُرضي الله ويحبه رسوله وخير الدار الآخرة فتخْتَرْن ذلك على ما يشغل عن ذلك كما دلت عليه مقابلة إرادة الله ورسوله والدار الآخرة بإرادة الحياة الدنيا وزينتها، فإن المقابلة تقتضي إرادتين يجمع بين إحداهما وبين الأخرى، فإن التعلق بالدنيا يستدعي الاشتغال بأشياء كثيرة من شؤون الدنيا لا محيصَ من أن تُلهيَ صاحبها عن الاشتغال بأشياء عظيمة من شؤون ما يرضي الله وما يرضي رسوله عليه الصلاة والسلام وعن التملي من أعمال كثيرة مما يكسب الفوز في الآخرة فإن الله يحب أن ترتقي النفس الإنسانية إلى مراتب الملكية والرسول صلى الله عليه وسلم يبتغي أن يكون أقرب الناس إليه وأعلقهم به سائراً على طريقته لأن طريقته هي التي اختارها الله له‏.‏ وبمقدار الاستكثار من ذلك يكثر الفوز بنعيم الآخرة، فالناس متسابقون في هذا المضمار وأوْلاهم بقصب السبق فيه أشدهم تعلُّقاً بالرسول صلى الله عليه وسلم وكذلك كانت همم أفاضل السلف، وأولى الناس بذلك أزواج الرسول عليه الصلاة والسلام وقد ذكّرهن الله تذكيراً بديعاً بقوله‏:‏ ‏{‏واذكُرْنَ ما يُتْلَى في بيوتكنّ من ءايات الله والحكمة‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 34‏]‏ كما سيأتي‏.‏

ولما كانت إرادتهن الله ورسوله والدارَ الآخرة مقتضية عملَهُنّ الصالحات وكان ذلك العمل متفاوتاً، وجعل الجزاء على ذلك بالإحسان فقال‏:‏ ‏{‏فإن الله أعدّ للمحسنات منكُنّ أجراً عظيماً‏}‏ ليعلمْنَ أن هذا الأجر حاصل لهن على قدر إحسانهن؛ فهذا وجه ذكر وصف المحسِنات وليس هو للاحتراز‏.‏ وفي ذكر الإعداد إفادة العناية بهذا الأجر والتنويه به زيادة على وصفه بالعظيم‏.‏

وتوكيد جملة الجزاء بحرف ‏{‏إنّ‏}‏ الذي ليس هو لإزالة التردد إظهار للاهتمام بهذا الأجر‏.‏ وقد جاء في كتب السنة‏:‏ أنه لما نزلت هذه الآية ابتدأ النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة فقال لها‏:‏ «إني ذاكر لككِ أمراً فلا عليك أن لا تستعجلي حتى تستأمري أبويْككِ، ثم تلا هذه الآية، فقالت عائشة‏:‏ أفي هذا أستأمر أبوَيّ‏؟‏ فإنّي أريد الله ورسوله والدارَ الآخرة، وقال لسائر أزواجه مثل ذلك، فقلْنَ مثل ما قالت عائشة»‏.‏ ولا طائل تحت الاشتغال بأن هذا التخيير هل كان واجباً على النبي صلى الله عليه وسلم أو مندوباً، فإنه أمر قد انقضى ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يخالف أمر الله تعالى بالوجوب أو الندب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ‏(‏30‏)‏‏}‏

تولى الله خطابهن بعد أن أمر رسوله بتخييرهِنّ فخيرهُنّ فاخترْنَ الله ورسوله والدار الآخرة، فخاطبهن ربُّهُنّ خطاباً لأنهن أصبحْنَ على عهد مع الله تعالى أن يؤتِيَهُنّ أجراً عظيماً‏.‏ وقد سمّاه عمر عهداً فإنه كان كثيراً ما يقرأ في صلاة الصبح سورة الأحزاب فإذا بلغ هذه الآية رَفَعَ بها صوته فقيلَ له في ذلك، فقال‏:‏ أُذكِّرهُنّ العهدَ، ولما كان الأجر الموعود منوطاً بالإحسان أُريد تحذيرهن من المعاصي بلوغاً بهن إلى مرتبة الملكية مبالغة في التحذير إذ جعل عذاب المعصية على فرض أن تأتيها إحداهن عذاباً مضاعفاً‏.‏ ونِدَاؤُهُنّ للاهتمام بما سيُلْقَى إليهن‏.‏ ونَادَاهُنّ بوصف ‏{‏نساء النبي‏}‏ ليعلَمْنَ أن ما سيُلقَى إليهن خبر يناسب علوّ أقدارهِنّ‏.‏ والنساء هنا مراد به الحلائل، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونساءَنا ونساءَكم‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏61‏)‏‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏يَأتِ‏}‏ بتحتية في أوله مراعاة لمدلول ‏{‏مَن‏}‏ الشرطية لأن مدلولها شيء فأصله عدم التأنيث‏.‏ وقرأه يعقوب ‏{‏مَن تأت‏}‏ بفوقية في أوله مراعاة لِمَا صْدَق ‏{‏مَن‏}‏ أي‏:‏ إحدى النساء‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏يضاعَف‏}‏ بتحتية في أوله للغائب وفتح العين مبنياً للنائب ورفع ‏{‏العذابُ‏}‏ على أنه نائب فاعل‏.‏ وقرأه ابن كثير وابن عامر ‏{‏نضَعِّف‏}‏ بنون العظمة وبتشديد العين مكسورة ونصب ‏{‏العذابَ‏}‏ على المفعولية؛ فيكون إظهار اسم الجلالة في قوله بعده‏:‏ ‏{‏وكان ذلك على الله يسيراً‏}‏ إظهاراً في مقام الإضمار‏.‏ وقرأه أبو عمرو ويعقوب ‏{‏يُضَعَّف‏}‏ بتحتية للغائب وتشديد العين مفتوحة‏.‏ ومفاد هذه القراءات متّحِدُ المعنى على التحقيق‏.‏

وروى الطبري عن أبي عمرو بن العلاء وعن أبي عبيدة مَعمَر بن المثنَّى‏:‏ أن بين ضاعف وضَعَّف فرقاً، فأما ضاعف فيفيد جعْل الشيء مِثْلَيْه فتصير ثلاثة أعْذِبة‏.‏ وأما ضَعَّف المشدّد فيفيد جَعْل الشيء مثله‏.‏ قال الطبري‏:‏ وهذا التفريق لا نعلم أحداً من أهل العلم ادعاه غيرهما‏.‏ وصيغة التثنية في قوله ‏{‏ضعفين‏}‏ مستعملة في إرادة الكثرة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم ارجع البصر كرَّتيْن ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 4‏]‏ لظهور أن البصر لا يرجع خاسئاً وحسيراً من تكرّر النظر مرتين، والتثنية ترِدُ في كلام العرب كناية عن التكرير، كقولهم‏:‏ لَبَّيْك وسَعْديك، وقولهم‏:‏ دَوَالَيْك، ولذلك لا نشتغل بتحديد المضاعفة المرادة في الآية بأنها تضعيف مرة واحدة بحيث يكون هذا العذاب بمقدار ما هو لأمثال الفاحشة مرتين أو بمقدار ذلك ثلاث مرات وذلك ما لم يشتغل به أحد من المفسرين، وما إعراضهم عنه إلا لأن أفهامهم سبقت إلى الاستعمال المشهور في الكلام، فما روي عن أبي عمرو وأبي عبيدة لا يلتفت إليه‏.‏

والفاحشة‏:‏ المعصية، قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل إنما حرَّم ربيَ الفواحش ما ظهر منها وما بطن‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 33‏]‏ وكلما وردت الفاحشة في القرآن نكرة فهي المعصية وإذا وردت معرفة فهي الزنا ونحوه‏.‏

والمبيِّنة‏:‏ بصيغة اسم الفاعل مبالغة في بيان كونها فاحشة ووضوحه حتى كأنها تبيِّن نفسها وكذلك قرأها الجمهور‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو بكر بفتح الياء، أي‏:‏ يبيّنها فاعِلها‏.‏

والمضاعفة‏:‏ تكرير شيء ذي مقدار بمثل مقداره‏.‏

والضعف‏:‏ مماثل عدد ما‏.‏ وتقدم في قوله تعالى ‏{‏فآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً من النار‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏38‏)‏‏.‏ ومعنى مضاعفة العذاب‏:‏ أنه يكون ضعف عذاب أمثال تلك المعصية إذا صدرت من غيرهنّ، وهو ضعف في القوة وفي المدة، وأريد‏:‏ عذاب الآخرة‏.‏

وجملة وكان ذلك على الله يسيراً‏}‏ معترضة، وتقدم القول في نظيرها آنفاً‏.‏ والمعنى‏:‏ أن الله يحقق وعيده ولا يمنعه من ذلك أنها زوجة نبيء، قال تعالى‏:‏ ‏{‏كانتا تحتَ عبدَيْن من عِبادنا صالحيْن إلى قوله‏:‏ ‏{‏فلم يُغْنِيَا عنهما من الله شيئاً‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 10‏]‏‏.‏

والتعريف في ‏{‏العذاب‏}‏ تعريف العهد، أي‏:‏ العذاب الذي جعله الله للفاحشة‏.‏